اشتدّ المرض العضال ومات الطيالسي رحمه الله ….
وبقي صاحبه القزويني …
وشاء الله أن يفضح القزويني قبل عام من موته حين وصل إليه الإمام أبو حاتم الرازي وخاله محمد بن يزيد وتفحّصا أحاديثه عن شيوخ العراق فظهر لهما أنه يكذب على أهل قزوين في روايته عن شعبة بن الحجاج … والحكاية ذكرها ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل .
تفطّن العلماء للقزويني فأفردوا له ترجمة خاصة في ثلبه كقول الذهبي في الميزان : ” داود بن إبراهيم قاضي قزوين عن شعبة ، قال أبو حاتم : متروك الحديث كان يكذب ” اهـ .
ومن ثمّ اختلط الأمر على بعض المحدثين والمؤرخين فظنّوا أنّ داود بن إبراهيم الذي يروي عنه الطيالسي هو شخص آخر ثقة واسطي غير القزويني ففرقوا بينهما في كتب الرجال لأن الأول واسطي موثّق ، والثاني قزويني متهم بالكذب ، وخفي الأمر على بعض المحدثين كالألباني رحمه الله فصحح الحديث ..
الإمام أسلم بن سهل [ ت 292 هـ ] صاحب تاريخ واسط ذكر في كتابه أسماء العلماء من أهل واسط ومن ورد عليها فلم يذكر “داود بن إبراهيم ” ؟ وواسط كانت بلدة صغيرة لا يكاد يخفى منها أحد من أهل العلم …
ألا يثير ذلك الشك الريبة !
الإمام الرافعي القزويني صاحب ” كتاب التدوين في ذكر أهل العلم بقزوين ” رفع شيئاً من الإشكال ، وكان الرافعي رحمه الله من أعلم الناس بعلماء قزوين وقد اعتمد في كتابه على أصول وكتب ضاع أغلبها للأسف ..
زعم الرافعي فكتابه النفيس أنّ القزويني [ أي المتهم بالكذب ] هو الواسطي فجعلهما واحداً وترجم له بقوله :
“داود بن إبراهيم العقيلي أبو سليمان الواسطي كان قاضياً بقزوين من قِبَل الرشيد ثم من قِبَل الأمين والمأمون ، سمع شعبة بن الحجاج وحماد بن سلمة وحماد بن زيد .. إلى قوله : مات سنة أربع عشر ومائتين بقزوين ، ودفن بها ، وكان يعرف الموضع الذي فيه قبره بمشهد أبي سليمان” اهـ .
هذا يدلّ على أنّ القاضي القزويني المتهم عند بعض الأئمة بالكذب هو ثقة ذو جاهٍ من الأولياء الصالحين عند آخرين …
وهذا يفسّر لنا سبب عدم شهرته بواسط فالرجل الواسطي ترك واسطاً ثم انتقل إلى قزوين وهنالك بعيداً عن واسط حصل على الرئاسة والشهرة … وقد حكى أبو الشيخ الأصبهاني عن مشايخه أنّ أبا داود الطيالسي كان حين يقدم على بلاد فارس يهدي الطيالسة إلى رؤساء البلدة التي يصل إليها [ ذكر بلدة أصبهان ] فكان كل من أهدى إليه طيلساناً يعطيه لثمنه ألف درهم .
وافق الإمام المِزّيُّ ؛ الرافعيَّ على ذلك فذكر داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي قاضي قزوين فيمن روى عن هشام البصري كما في تهذيب الكمال .
ونحن هنا بحاجة إلى دليل آخر يشهد لقول الرافعي ويُثبت أن الواسطي هو القزويني فوجدنا فائدة عزيزة ذكرها الإمام أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه ” طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها ” في ترجمة عبد الله بن محمد بن سلام إذ قال :
“كان عبد الله كثير الحديث يُحدّث عن داود بن إبراهيم الواسطي … ثم قال أبو الشيخ : حدثنا أبو عبد الرحمن بن المقرئ وأبو علي بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن الحسن قالوا : ثنا عبد الله بن محمد بن سلاّم قال حدثنا داود بن إبراهيم الواسطي بقزوين …. إلخ .
فهذا يدل على أن داود بن إبراهيم الواسطي كان يروي الأحاديث بقزوين ، ويؤكد صحة ما قاله الرافعي والمزي .
ولا ينشغل طالب العلم بعد ذلك فيمن فوق الواسطي من الرواة ، وهل ثبت سماع الواسطي من حبيب أم لا ؟ فالكذاب يركب الإسانيد ويقلب الأسماء ويفعل ما يشاء ليمرّر دسيسته كما تقدّم عن رتن الهندي الكذاب المتوفى في القرن السابع أنه كان يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم …
فالحكاية وما فيها أن الطيالسي كان يعجبه الإكثار من الشيوخ والروايات وكان يظن خيراً بالقاضي الواسطي فحدث عنه ما أغرب به من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن كل ما روي في معنى الحديث المذكور من الآثار المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلولٌ مطعونٌ في سنده .