عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إنّ بين يَدَي الساعة لَهَرْجاً “
قال قلت : يا رسول الله ما الهَرْجُ ؟ قال : ” القتل ” .
فقال بعض المسلمين : يا رسول الله إنا نَقتُلُ الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا !!
فقال رسول الله : ” ليس بقتل المشركين ، ولكن يقتل بعضكم بعضاً حتى يقتل الرجلُ جارَه وابنَ عمّه وذا قرابته ” !
فقال بعضُ القوم : يا رسول الله ومعنا عقولُنا ذلك اليوم ؟
[ وفي رواية : فأُبْلِسنا حتى ما منا أحدٌ يُبدي عن واضحة ، وجعل بعضُنا ينظر في وجوه بعض من المودّة التي بيننا يومئذ ، إنّ الرجل ليفارق أخاه فيطول عليه ليلة حتى يلقاه ، لولا أنه يستحيي من الناس للثَمَه ، وعلمنا أن صاحبنا لم يكذبنا قلنا : ” وفينا كتابُ الله ” ؟ قال : نعم ، قلنا : واحدة نسألك عنها أخبرنا عن عقولنا اليوم أهي معنا يومئذ ” ؟ ]
فقال رسول الله :
لا !
تُنزَعُ عقولُ أكثر ذلك الزمان ، ويخلف له هَباءٌ من الناس لا عقولَ لهم يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء .
ثم قال الأشعري : وأيمُ الله إني لأظنها مُدركتي وإياكم ، وأيمُ الله ما لي ولكم منها مخرج إن أدركتنا فيما عهد إلينا نبيّنا إلا أن نخرج كما دخلنا فيها لم نُصب منها دَمَاً ولا مالاً ” .
رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وغيرهم وصححه ابن حبان والحاكم .
هذا الحديث النبوي الشريف العظيم نُتبعه بقصة عجيبة من التاريخ الإسلامي وقعت قبل نحو ألف عام في تونس الحبيبة تعكس جانباً مما تنبأ به المصطفى صلى الله عليه وسلم . ذكرها القاضي عياض في ترتيب المدارك في ترجمة الإمام الكبير أبي عمران موسى بن عيسى الفاسي صاحب الإمام ابن عبد البر الأندلسي ، وكان الفاسي عالم القيروان وشيخ مشايخهم في زمانه ، وقعت في زمانه فتنة بين المسلمين حتى اقتتل الناس في الطرقات فانظر فيم اختلف الناس لتعلم مصداق النبوءة المحمدية ! وحُسنَ صنيع الإمام البيهقي إذ أورد الحديث النبوي في كتابه ” دلائل النبوة ” .
انظر ما جرى في تونس قبل ألف عام
قال القاضي عياض – رحمه الله – :
” حَدَثَ في القيروان مسألةُ في الكفار ؛ هل يعرفون اللهَ – تعالى- أم لا ؟ فوقع فيها اختلافُ العلماء ، ووقعَتْ في ألْسِنَة العامّة ، وكثُر المِراءُ ، واقتتلوا في الأسواق إلى أن ذهبوا إلى أبي عمران الفاسي ،
فقال : إن أنصتم ، علّمتُكم .
قالوا : نعم .
قال : لا يكلمني إلا رجلٌ ، ويسمع الباقون !
فنصَّبُوا واحداً ، فقال له : أرأيت لو لقيت رجلاً ، فقلتَ له : أتعرف أبا عمران الفاسي؟ قال : نعم . فقلتَ له : صِفه لي ؟
قال : هو بقّالٌ في سوق كذا ، ويسكن سَبْتَة ، أكان يعرفني؟
فقال : لا .
فقال : لو لقيت آخر فسألته كما سألت الأول ، فقال أعرفه ، يدرّس العلم ، ويفتي ، ويسكن بغرب السماط أكان يعرفني ؟ قال : نعم . قال : فكذلك الكافرُ قال : لربِّه صاحبةٌ وولدٌ ، وأنه جسمٌ ، فلم يعرف اللهَ ولا وَصَفَهُ بصفته بخلاف المؤمن . فقالوا : شفَيْتَنا . ودعوا له ، ولم يخوضوا بعدُ في المسألة “ .
انتهت القصة .
ومن تأمّل جواب الفاسي علم أنه قد أجاب بالقدر الذي يطفئ به نار الفتنة ، وبقدر ما تبقّى للناس من العقول بعد أن انتزعت بذلك الخلاف السخيف المتعلق بتوصيف إيمان أهل ملة غير ملة المسلمين ، إذ لو فصّل الإجابة لازداد الإشكال على العامّة الغوغاء الذين انتزعت قلوبهم في ساعة من الغضب بعد انتقال الخلاف من العلماء إليهم .
وقد ذكر الذهبي هذه الحكاية في سِيَر النبلاء [ 17 / 547 ] وعقّب عليها بقوله :
” قلت : المشركون والكتابيون وغيرهم عرفوا اللهَ تعالى بمعنى أنهم لم يجحدوه ، وعرفوا أنه خالقهم ، قال تعالى : ” وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ” ، وقال : ” قالت رسلهم أفي الله شَكّ فاطر السماوات والأرض ” فهؤلاء لم ينكروا البارئ ، ولا جحدوا الصانع ، بل عرفوه ، وإنما جهلوا نعوته المقدسة ، وقالوا عليه ما لا يعلمون ، والمؤمنُ فعرف ربَّه بصفات الكمال ، ونفى عنه سمات النقص في الجملة ، وآمن بربه ، وكفّ عما لا يعلم ، فبهذا يتبين لك أن الكافر عرف اللهَ من وجه ، وجهله من وجوه ، والنبيون عرفوا اللهَ تعالى ، وبعضُهم أكمل معرفة لله ، والأولياءُ فعرفوه معرفة جيدة ، ولكنها دون معرفة الأنبياء ، ثم المؤمنون العالمون بعدهم ، ثم الصالحون دونهم فالناس في معرفة ربهم متفاوتون ” .