لما انهار سدّ مأرب قبل نحو ثلاثة آلاف سنة انهارت مملكة سبأ بالسَّيْل العرم الذي أتلف جنانها ومواردها الاقتصادية فتفرّق شعبها في الأرض شَذَر مذر، فنزل بنو قيلة “يثرب” وكانوا أهل زرع وفلاحة فأحيوا مواتَها بمائها الطيّب، فربت القرية الطيبة بمائها الطيّب وثمارها الطيّب، ورَبِيَ الفرعان الطيّبان الشقيقان من أبناء قيلة؛ “الأوس” و “الخزرج”.
كان بنو قيلة قوماً لطيفاً يُعجبهم اللهو [كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم]، فحرّش بينهم الشيطان فصاروا أعداءً، يتزعّمهم شيوخ مستبدّون لا يعرفون المحاورة ولا المشاورة، فوقعت بينهم فتنة عظيمة وحرب طويلة استمرّت لمائة وعشرين سنة.
لا تعجب من طول الحرب فالحروب القبلية العربية قبل الإسلام كداحس والغبراء كانت تطول بطول الرغبة في الثأر والانتقام للحفاظ على هيبة القبيلة وسمعتها، وهنالك سبب آخر لطول حروبهم وهو الاعتماد على استراتيجية الكرّ والفرّ مما يفوّت فرصة حسم الصراع القبلي في معركة واحد إذا انعدم التكافؤ، فتكون الحرب سجالاً كرّاً وفرّاً كما قال تعالى:
“وتلك الأيام نُداولها بين الناس”.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام في مكة المكرمة فكفر به الشيوخ والزعماء وقعت في يثرب نادرة فريدة لا نظير لها في التاريخ العربي !
هديّة غريبة عجيبة قدّمها الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ؟
فما الذي حَدَث؟
من غير مشورة ولا محاورة قرّر المستبدّون من زعماء الأوس والخزرج أن يحسموا الصراع بينهم بملحمة ختامية فاصلة على أرضٍ لا تقبل الكرّ والفرّ!! فتواعدوا لحرب مجنونة غبيّة انتحارية غير تقليدية في ساحة غير مألوفة يُقال لها “بُعاث” أو سمّيت بذلك بعد الحرب.
وهي عبارة جرف صخري وعر على أطراف “يثرب” يصعب على من نزل فيه أن يخرج منه إلا بشق الأنفس، خرج الجمعان بخيلائهم إلى حفرةٍ من النار، كتائب الأوس يتقدّمها رئيسهم”حُضير الكتائب”، وكتائب الخزرج يتقدّمها رئيسهم “عمرو بن النعمان” ونزلوا بكبريائهم إلى الجرف الهاوي، وقعد الصغار على شفا الجرف يشهدون، فتورّط الجمعان بمقتلة عظيمة فظيعة لا مفرّ منها حتى أبيدت سُراتهم وهلكت صناديدهم، قُتلوا جميعاً، لم ينجُ منهم أحد، وفيها على الصحيح أنزل الله تعالى قوله :
“وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”
قال الحافظ ابن كثير في التفسير : “هذا السياق في شأن الأوس والخزرج …” يعني أن الآيات عامة لكن هذا الجزء من هذه الآية في سياق الحادثة الخاصة بيوم بُعاث.
عُرفت تلك الحرب المروّعة بـ”يوم بُعاث”، وكان من أشهر أيام العرب لغرابة الواقعة وخروجها عن المألوف، وكان ذلك اليوم العجيب في الأيام الأولى من البعثة المحمدية قبل نحو خمس سنين من الهجرة النبوية، جاء ذكره في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
“كان يومُ بُعاث يوماً قدّمه اللهُ لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقُتلت سُراتُهم، وجُرِحوا، فقدّمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام”
[رواه البخاري في الصحيح]
“سُراتُهم” أي زعماؤهم وأشرافهم وكبراؤهم، وقولها: “وجُرِحوا” ضبطه بعضُ رواة الصحيح بلفظ “وحرجوا” بالحاء المهملة من “الحَرَج” وهو ضيق الصدر أي أصابهم ملل وكره وضاق صدرهم من ذلك اليوم المشؤوم.
فهل تعلم ما نتج عن الجُرْحِ والحَرَج قبل دخول الأوس والخزرج في دين الإسلام ؟
ابتدع الناجون من أبناء الأوس والخزرج نظامَ الشورى القبلية “اللويا جيرغا” قبل إسلامهم، فانتشرت فيهم سريعاً من الطبقات والروابط الدنيا إلى الطبقات العليا من الزعماء والرؤساء، لا يقضون جميعاً بشيء، ولا يقض فرعٌ من أفخاذهم بشيءٍ قبل التحلّق بحلقة اللويا جيرغا فانتهى بذلك حكم الزعيم الأوحد المستبد وكان ذلك التطوّر قبل إسلامهم.