محطّة التلغراف من قباب الشرك !؟


بعد أن فصّلنا الفارق بين الجهل البسيط والجهل المركّب ..

ننبّه على فارق آخر في مراتب شيوخ الحركة الدينية في شبه الجزيرة العربية مطلع القرن العشرين ..

 كان الوزير حافظ وهبة يصف شيوخ الإخوان المتطرّفين بالشيوخ الصغار ، ويصف كبار العلماء في المملكة بالشيوخ الكبار .

الشيوخ الصغار كانوا صغار العلم والقدر والسنّ مع ما ابتلوا به من الغلوّ والتشدّد فانطبق عليهم الوصف النبوي : ” أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ” .

أما الشيوخ الكبار فكانوا كابر العلم والقدر والسنّ وفيهم من التؤدة والتأنّي ما حفظ الله به المملكة .

الشيوخ الصغار رفعوا لواء التوحيد والجهاد وكانوا قد عكفوا على قراءة القرآن والحديث النبوي فكان لهم نصيب من العلم الشرعي …

لكنهم كانوا يعتقدون أنّ قبّة المحطة التي يخبّئ فيها الملك عبد العزيز آلة التلغراف فتأتيه بالأخبار والمراسلات في سرعة البرق قبل أن يرتدّ إليه طرفه كانت عبارة عن قبة كاهن مشعوذ من إخوان الكهّان ، فيها مذبح لعفريتٍ من الجنّ عنده علم من الكتاب …

جهلهم كان من الجهل المركّب الفظيع …

يعتقدون أن عامل الملك عبد العزيز يذبح للعفريت الشيطان شاةً فيقدّمها إليه قرباناً فينطلق العفريت بسرعة البرق ويلقي إليه الكتاب المرسل !

وكانوا يظنّون أن الدندنات التي تصدح بها آلة التلغراف فيحيلها الموظّف العامل إلى حروف مكتوبة مقروءة ما هي إلا طلاسم عفريت من الجِنّ لا يفقهها إلا الكاهن المشعوذ ..

ومن ثَمّ انتقل النزاع من الخلاف في الحِلِّ والحُرمة إلى الخلاف في الإسلام والكفر …

فقبّة التلغراف – بناء على أصولهم الفقهية وعقائدهم الدينية – لا تقل عن قباب القبور التي تُعبد من دون الله فيجب هدمها لإقامة دولة التوحيد والإسلام . 

فتأمّل كيف ارتقى الخلاف في الفروع إلى نزاع في الأصول العقائدية ، ومنها إلى الهجرة والعكوف على تعلّم القرآن والحديث في هِجَر التوحيد ، ومنها إلى الجهاد في سبيل الله لإنكار المتنكر فعقدوا مؤتمر الأرطاوية الذي هدّدوا فيه بخلع البيعة ، فاضطر الملك عبد العزيز إلى إيقاف تلغراف المدينة المنورة على مضض وعجّل بالرحيل إلى الرياض ليدرك الفتنة الغبيّة قبل انفراط عقد المملكة ، والمصيبة الكبرى أنّ ناساً من كبار الشيوخ صدّقوا رواية المهابيل من الإخوان .

يقول الوزير حافظ وهبة في كتابه الماتع : 

” لقد مكث الملك عبد العزيز يُجاهد ويُجالد في سبيل التليفون والتلغراف اللاسلكي مرّة مع الإخوان ، وآونة أخرى مع العلماء نحو عشر سنوات ، وكان هذا الموضوع من الموضوعات التي أثارت حفيظة الإخوان …

أوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1346 هـ 1928 م مع عالم من علماء نجد للتفتيش الإداري والديني ، فجرى ذكر التلغراف اللاسلكي وما يتصل به من المستحدثات .

 فقال الشيخ : لا شك أن هذه الأشياء ناشئة من استخدام الجنّ !!!!

وقد أخبره ثقة أن التلغراف اللاسلكي لا يشتغل إلا بعد أن تذبح عنده ذبيحة ، ويُذكر عليها اسم الشيطان ، ثم أخذ يذكر لي بعض القصص عن استخدام بني آدم للشيطان ، ولقد كان شرحي لنظرية التلغراف اللاسلكي ، وتاريخ استكشافه ليس له نصيب من إقناع الشيخ، فلم أجد أي فائدة من وراء البحث ، فسكتُّ على مضض .. وفي يوم من الأيام دعاني الشيخ لمرافقته … وفي أثناء الطريق أوقفت السيّارة عند محطة التلغراف اللاسلكي ، وهنا دار بيني وبينه الحديث التالي :

سأل الشيخ : لماذا وقفت السيّارة ؟

فأجبته : لنرى التلغراف اللاسلكي ، فإن كان هنالك ذبائح ودعوة لغير الله ، فإني سأحرقه مهما كانت النتيجة ، فالدين لله لا لابن سعود ، وقد يكون الملك مخدوعاً في أمر هذه التلغرافات وتذكر له أشياء على غير حقيقتها ، فقال الشيخ : بارك الله فيك .

فدخلت المحطّة ، وبعد البحث لم يجد الشيخ أي أثر لعظام الذبائح وقرونها أو صوفها ، ثم أراه العامل طريقة المُخابرة ، وفي دقائق تبودلت المخابرات والتحيّات بينه وبين جلالة الملك في جدّة .

  وكانت هذه الزيارة البسيطة مدعاة للشكّ فيما كان يعتقده من عمل الشيطان في المُخابرات ، ولكنه ظنّ أني ربما دبّرت هذه المكيدة بإيعاز من الملك ، فزار الشيخ محطة التلغراف بضع مرّات منفرداً في أوقات مختلفة بدون أن يخبر أحداً بعزمه فكان يُفاجئ العامل بالزيارة ويسأله عن كل ما يغمض عليه ، وقد أخبرني الشيخ ونحن في طريقنا إلى مكة بأنه يستغفر اللهَ ويتوب إليه عمّا كان يعتقده ويتّهم به بعضَ الناس ، وربما كان يقصدني في هذا الأمر ، ثم ختمتُ الموضوع بقولي : ما قولكم يا حضرة الشيخ في رواية أولئك الثقات ؟ أخشى أن تكون روايتهم لكم عن أكثر المسائل العلمية كروايتهم عن التلغراف ؟

فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ” اهــــ [ كتاب تاريخ جزيرة العرب في القرن العشرين / صفحة 307 ] .

نسخة للطبع نسخة للطبع