بعد فشل الحملة الصليبية الخامسة واندحار الأوربيين من بلاد المسلمين ساد شعور لدى الزعماء والعامّة أنه لا توجد على الأرض قوة تضاهي قوة الأمة الإسلامية، وأنّ “الحميّة الدينية” و “خصال العرب ومن معهم” هما مفتاح كلمة السرّ في الصمود والصبر على القتال بعد أن امتدّت حدود بلاد الإسلام من نهر سيحون في بلاد أزبكستان شرقاً إلى سواحل المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى، وظنّ نخبة من الفقهاء والمفكرين أنّ الله تعالى قد خصّ الجنس العربي بغرائز المجد وطبائع الفضل على سائر الأعراق والأجناس حتى بلغ الأمر إلى درجة الاعتقاد بأن الصناعة العربية خير من الصناعة العجمية وأن القوس العربية خير من القوس الفارسية وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في حديثه عن فضل العرب على الفرس وسائر الأجناس.
ولكم أن تتخيّلوا كم كان جميلاً ذلك الفخر بالإسلام والقومية العربية في ذلك العصر عند دحر الغزاة الأوربيين.
ثم وقعتِ الواقعة !
وقُلبَت الطاولة ! في سنة شؤم …
ذلك الغرور والعُجب والخُيَلاء قام بتحطيمه كافرٌ معدود من الهَمَج يُدعى “جنكزخان” كان المسلمون يعتقدون أنه مجرّد زعيم لشعب من الهمج الرعاع .
سنة 617 هـ عام الانهيار … وقع للإسلام والمسلمين حدثٌ لا نظير له ، لا في التاريخ الإسلامي ولا غير الإسلامي ، ولولا رواية تلك الأحداث التاريخية بالتواتر المقطوع بصحّته لما صدّقها عاقل …
واللهِ لكأني أنظر إلى الحافظ ابن الأثير يتقطّع لحمه وعظمه بماء الأسيد ويحترق قلبه بنار الحزن والأسى وهو ينعي الإسلام والمسلمين في خواتيم التاريخ الكامل بقوله :
” ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة”
ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام
قال رحمه الله – :
” لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رِجلاً وأؤخّر أخرى، فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لمْ تلدني، ويا ليتني مِتّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنّ ترك ذلك لا يُجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمّن الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عَقِمَتِ الأيامُ والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله “بختنصر” ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم” اهـ .